
لم تكن التظاهرات التي شهدتها مناطق وسط سوريا وغربها، أول من أمس، سوى حلقة من سلسلة طويلة من التحرّكات الشعبية المستمرة في المناطق العلوية، لا يفتأ يحرّكها تواصل الانتهاكات والنبذ والعنف الطائفي ضدّ العلويين. ويأتي ذلك فيما يبدو أن أبناء الطائفة الذين كانوا منقسمين بلا مرجعية واضحة، يتجهون بشكل متزايد إلى السير على خطى الشيخ غزال غزال، الذي بات حالياً بمثابة المرجعية الأقوى للعلويين في سوريا.
أيضاً، يَظهر لافتاً ما شهدته التظاهرات في أرياف حمص وحماة، كما في جبلة وبانياس واللاذقية وطرطوس وقراهما، من توافق كبير في الشعارات التي رُفعت، بعدما دارت بمعظمها في فلك تأييد إقامة نظام فيدرالي في سوريا، وإطلاق سراح المعتقلين، ووقف الانتهاكات التي يتعرّض لها أبناء الطائفة، وإنهاء عملية الفرز الطائفي في مؤسّسات الدولة، والتي لم تنقطع منذ سقوط النظام السابق.
أمّا السلطات الانتقالية، التي حاولت الإيحاء بأنها تتبنى موقفاً «محايداً» في التعامل مع الحراك أمام عدسات الكاميرات، فاكتفت، عملياً، بمراقبة مؤيّديها وهم يخترقون صفوف المتظاهرين، ويعتدون على عدد منهم، قبل أن تستغلّ الوضع لتتدخّل بذريعة «فضّ الاشتباك وإعادة بسط الأمن». كذلك، كانت وسائل الإعلام الرسمية (الإخبارية)، وتلك الموالية للحكومة الانتقالية، منحازة في تغطيتها إلى صفّ السلطات، بعدما اتّهمت الحراك الشعبي بتبنّي أجندات خارجية، وسلّطت الضوء على ما زعمت أنّها عمليات إطلاق نار نفّذها من سمّتهم «فلول النظام» على المتظاهرين وقوات الأمن، من دون أي إشارة إلى الاعتداءات التي تعرّض لها المحتجّون من قبل مؤيّدي الحكومة.
وترافقت الحملة الإعلامية مع أخرى شنّها ناشطون مؤيديون للسلطات على مواقع التواصل الاجتماعي ضد المتظاهرين ومن يقف خلفهم، وتحديداً الشيخ غزال، فيما تمّ تداول تسجيل يُظهِر شخصاً يحمل مسدّساً وهو يقتحم إحدى التظاهرات، واتهام هذا الأخير بأنه «عنصر في النظام السابق»، قبل أن يتبيّن أنه من مؤيّدي الحكومة. ومن جملة ما أظهرته التسجيلات الأخرى التي انتشرت خلال التظاهرات الأخيرة الأحد أيضاً، عملية دهس بالسيارات، تباهى منفّذها علناً بفعلته، قبل أن يتلقّى عروضاً بإصلاح سيارته باعتبار أن «ما قام به هو عمل بطولي». وعكس هذا المشهد بوضوح عمق الأزمة الطائفية التي تعيشها سوريا، والتي لا تقتصر على العلويين فحسب، وإنما تمتد إلى الدروز جنوباً، وحتى الأكراد السنّة في الشمال الشرقي.
تنشط جماعة «سرايا أنصار السنّة» في جميع المناطق الخاضعة لسيطرة السلطات الانتقالية
على أنه في مقابل الاتهامات التي وُجّهت إلى المتظاهرين والشيخ غزال، يبقى ثابتاً أن عوامل عديدة تدفع نحو استمرار هذه الانتفاضة، على رأسها تقاعس السلطات عن قمع الأصوات الطائفية التي عملت ولا تزال تعمل على تأجيج الخطاب المُعادي لأحد مكوّنات المجتمع، جنباً إلى جنب استمرار الانتهاكات والهجمات الدامية، والتي كان آخرها التفجير الذي استهدف جامع الإمام علي في حمص خلال صلاة الجمعة، وتبنّته جماعة «سرايا أنصار السنّة» – وهي الجماعة نفسها التي كانت قد تبنّت، في حزيران الماضي، تفجير كنيسة مار إلياس في حي الدويلعة الدمشقي -، بالإضافة إلى عدد من عمليات الاغتيال التي استهدفت مواطنين ينتمون إلى الطائفة العلوية.
وإذ دأبت السلطات على اتهام تنظيم «داعش» بالوقوف وراء تلك الهجمات، في محاولة للتغطية على وجود مسلحين متشدّدين داخل تشكيلاتها – لم تخرج «أنصار السنّة» إلا من صفوفهم -، فإن تتبّع نشاط هذه الجماعة المتطرفة يشير بوضوح إلى أنها موجودة في جميع المناطق التي تسيطر عليها السلطات الانتقالية، بعدما تبنّت اغتيالات في شمال البلاد ووسطها وغربها.
وعليه، من المتوقّع أن تستمر التظاهرات، مع ما يرافقها من أعمال عنف، على المدى القريب، ما يورّط السلطات الانتقالية في مأزق جديد، خصوصاً مع انفضاح عملية الفرز الطائفي الذي تنفيه الحكومة، وفشل قواتها الأمنية في حماية المتظاهرين. ويُضاف إلى ذلك، أنّ الخيار الذي اتخذته السلطة لتجاوز تلك الثغرات، من خلال محاولة اغتيال الحراك معنوياً، وقيادة حملات الاتهامات والتخوين ضده، وإفساح المجال لمؤيّديها لمحاولة وأده، هو خيار مُجرَّب، أثبتت الخبرة السورية، حتى الآن، فشله في تحقيق غرضه.



